عملية التقطير التجزيئي: شرح مسار العملية بالتفصيل مع المعدات المستخدمة | Fractional Distillation
تُعد عملية التقطير التجزيئي (Fractional Distillation) حجر الزاوية في العديد من الصناعات التحويلية، خاصة في قطاعات تكرير النفط، ومعالجة الغاز الطبيعي، والبتروكيماويات. تعتمد هذه العملية الهندسية المعقدة على المبادئ الأساسية للديناميكا الحرارية وانتقال الكتلة لفصل خليط من السوائل المتعددة إلى مكوناته الفردية أو إلى مجموعات من المكونات (أجزاء أو قطفات) بناءً على الاختلاف في درجات غليانها. إن القدرة على فصل النفط الخام المعقد إلى منتجات ذات قيمة عالية مثل البنزين والديزل ووقود الطائرات، أو فصل سوائل الغاز الطبيعي إلى الإيثان والبروبان، تجعل من التقطير التجزيئي إحدى أهم العمليات الوحدوية في الهندسة الكيميائية. يهدف هذا المقال إلى تقديم تحليل هندسي شامل ومفصل لهذه العملية، بدءًا من المبادئ النظرية التي تحكمها، مرورًا بتشريح دقيق للمعدات المستخدمة، ووصولًا إلى ديناميكية التشغيل واستراتيجيات التحكم، مع تسليط الضوء على تطبيقاتها الصناعية واسعة النطاق.
الأساس النظري لعملية التقطير التجزيئي
لفهم كيفية عمل التقطير التجزيئي، من الضروري استيعاب المبادئ الفيزيائية والكيميائية التي تشكل أساس عملية الفصل. تعتمد العملية برمتها على حالة التوازن بين طوري السائل والبخار للمخلوط، وكيف يتغير تركيب كل طور مع تغير درجة الحرارة والضغط.
مبادئ الفصل الفيزيائي
المبدأ الأساسي في التقطير هو أن بخار خليط من السوائل يكون أغنى بالمكون الأكثر تطايرًا (أي الذي يمتلك درجة غليان أقل) مقارنة بالسائل الذي هو في حالة توازن معه. عند تسخين خليط سائل، تبدأ المكونات ذات درجات الغليان المنخفضة بالتبخر أولاً وبتركيز أعلى في الطور البخاري. إذا تم تكثيف هذا البخار، فإن السائل الناتج سيكون أغنى بالمكون الأكثر تطايرًا من الخليط الأصلي. على العكس من ذلك، فإن السائل المتبقي سيصبح أغنى بالمكونات الأقل تطايرًا (ذات درجات الغليان الأعلى). التقطير التجزيئي هو في جوهره سلسلة متكررة من عمليات التبخير والتكثيف هذه، والتي تتم داخل معدة واحدة تسمى عمود التقطير (Distillation Column). كل تكرار لهذه العملية (تبخير ثم تكثيف) يُعرف بـ "المرحلة النظرية"، وكلما زاد عدد هذه المراحل، زادت كفاءة الفصل.
قانون راؤول وتوازن السائل والبخار (VLE)
يُعد مفهوم توازن السائل والبخار (Vapor-Liquid Equilibrium - VLE) مركزيًا في تصميم وتشغيل أعمدة التقطير. يصف هذا التوازن الحالة التي لا يحدث فيها تغيير صافٍ في كمية السائل أو البخار أو تركيبهما عندما يكون الطوران على اتصال مع بعضهما البعض عند درجة حرارة وضغط ثابتين. يوفر قانون راؤول (Raoult's Law) نموذجًا رياضيًا بسيطًا لوصف سلوك المخاليط المثالية.
ينص قانون راؤول على أن الضغط البخاري الجزئي لمكون معين ($p_i$) في خليط مثالي من السوائل يساوي حاصل ضرب ضغط البخار النقي لهذا المكون ($P_i^{sat}$) في جزئه المولي في الطور السائل ($x_i$).
$$ p_i = x_i P_i^{sat} $$حيث:
- $p_i$ هو الضغط البخاري الجزئي للمكون $i$ في الطور البخاري.
- $x_i$ هو الجزء المولي للمكون $i$ في الطور السائل.
- $P_i^{sat}$ هو ضغط البخار للمكون النقي $i$ عند درجة حرارة النظام.
وفقًا لقانون دالتون للضغوط الجزئية، فإن الضغط الكلي للنظام ($P$) هو مجموع الضغوط الجزئية لجميع المكونات. كما أن الضغط الجزئي للمكون $i$ يساوي حاصل ضرب ضغط النظام الكلي في جزئه المولي في الطور البخاري ($y_i$).
$$ p_i = y_i P $$بدمج المعادلتين، نحصل على العلاقة الأساسية التي تربط بين تركيب الطور السائل والطور البخاري في حالة التوازن لخليط مثالي:
$$ y_i P = x_i P_i^{sat} $$تُستخدم هذه العلاقة لإنشاء مخططات توازن السائل والبخار (VLE Diagrams)، مثل مخططات درجة الحرارة مقابل التركيب (T-x-y) ومخططات التركيب البخاري مقابل التركيب السائلي (x-y)، والتي تعتبر أدوات لا غنى عنها في تصميم أعمدة التقطير. ومع ذلك، فإن معظم المخاليط الحقيقية تظهر انحرافات عن السلوك المثالي (انحرافات إيجابية أو سلبية عن قانون راؤول)، مما يتطلب استخدام نماذج ديناميكية حرارية أكثر تعقيدًا مثل معاملات النشاط (Activity Coefficients) أو معادلات الحالة (Equations of State) لوصف سلوكها بدقة.
مفهوم التطاير النسبي (Relative Volatility)
التطاير النسبي (Relative Volatility)، ويرمز له بالرمز $\alpha_{ij}$، هو مقياس لسهولة فصل مكونين، $i$ و $j$. يتم تعريفه على أنه نسبة نسبة تركيز المكون الأكثر تطايرًا ($i$) في البخار إلى تركيزه في السائل، إلى نسبة تركيز المكون الأقل تطايرًا ($j$) في البخار إلى تركيزه في السائل.
$$ \alpha_{ij} = \frac{y_i/x_i}{y_j/x_j} $$باستخدام علاقة VLE ($K_i = y_i/x_i$، حيث $K_i$ هو ثابت التوازن للمكون $i$)، يمكن تبسيط المعادلة إلى:
$$ \alpha_{ij} = \frac{K_i}{K_j} $$وبالنسبة للمخاليط المثالية التي تتبع قانون راؤول، يمكن التعبير عنها كالتالي:
$$ \alpha_{ij} = \frac{P_i^{sat}}{P_j^{sat}} $$يشير هذا إلى أن التطاير النسبي يعتمد بشكل أساسي على نسبة ضغوط البخار للمكونات النقية، وبالتالي على الفرق في درجات غليانها.
- إذا كانت $\alpha_{ij} > 1$، فإن الفصل ممكن. المكون $i$ أكثر تطايرًا من المكون $j$.
- كلما زادت قيمة $\alpha_{ij}$ عن الواحد، كان الفصل أسهل، وتطلب عددًا أقل من مراحل الفصل.
- إذا كانت $\alpha_{ij} = 1$، فإن الفصل عن طريق التقطير التقليدي مستحيل. هذه الحالة تحدث في المخاليط الأيزوتروبية (Azeotropic Mixtures).
يعد التطاير النسبي معلمة حاسمة في تصميم عمليات التقطير، حيث يؤثر بشكل مباشر على عدد المراحل المطلوبة ونسبة الراجع اللازمة لتحقيق درجة الفصل المرغوبة.
التقطير البسيط مقابل التقطير التجزيئي
التقطير البسيط (Simple Distillation) هو عملية تتكون من مرحلة واحدة من التبخير والتكثيف. إنه فعال فقط عندما يكون الفرق في درجات غليان المكونات في الخليط كبيرًا جدًا (عادةً أكثر من 100 درجة مئوية)، أو عند فصل سائل متطاير عن مادة صلبة غير متطايرة. في هذه العملية، يتم غلي الخليط، ويتم تكثيف البخار الناتج وجمعه. سيكون السائل المقطر أغنى بالمكون الأكثر تطايرًا، لكنه لن يكون نقيًا أبدًا إذا كان الخليط الأصلي يحتوي على مكونات متعددة متطايرة.
أما التقطير التجزيئي، فيتغلب على قيود التقطير البسيط عن طريق إدخال عمود تجزئة (Fractionating Column) بين دورق الغليان والمكثف. هذا العمود مليء بأجزاء داخلية (صواني أو حشوات) توفر مساحة سطح كبيرة لحدوث دورات متتالية من التبخير والتكثيف. مع صعود البخار عبر العمود، يبرد ويتكثف على الأسطح الداخلية. الحرارة الناتجة عن هذا التكثيف تتسبب في تبخر السائل المتكثف مرة أخرى. في كل دورة من هذه الدورات، يصبح البخار أغنى بالمكون الأكثر تطايرًا، بينما يصبح السائل المتدفق لأسفل أغنى بالمكون الأقل تطايرًا. ينتج عن هذه العملية تدرج في درجة الحرارة على طول العمود، حيث تكون القمة هي الأبرد (وأغنى بالمكونات الخفيفة) والقاعدة هي الأسخن (وأغنى بالمكونات الثقيلة).
المكونات الرئيسية لعمود التقطير التجزيئي
يتكون نظام التقطير التجزيئي من مجموعة متكاملة من المعدات الهندسية المصممة للعمل معًا بكفاءة لتحقيق الفصل المطلوب. المكون الرئيسي هو عمود التقطير نفسه، ولكن المعدات المساعدة مثل المرجل والمكثف والخزانات والمضخات لا تقل أهمية.
جسم العمود (Column Shell)
جسم العمود هو الوعاء الرأسي الأسطواني الذي تحدث بداخله عملية الفصل. يتم تصنيعه عادةً من معادن قادرة على تحمل ظروف التشغيل من ضغط ودرجة حرارة وتآكل.
- مواد البناء (Materials of Construction): تتراوح المواد من الفولاذ الكربوني (Carbon Steel) للخدمات غير المسببة للتآكل ودرجات الحرارة المعتدلة، إلى الفولاذ المقاوم للصدأ (Stainless Steel) بدرجاته المختلفة (مثل 304، 316) لمقاومة التآكل، وصولًا إلى السبائك الخاصة (مثل Monel, Hastelloy) للبيئات شديدة التآكل أو درجات الحرارة العالية جدًا.
- اعتبارات التصميم: يتم تصميم سمك جدار العمود ومواصفاته وفقًا لمعايير هندسية صارمة مثل ASME Boiler and Pressure Vessel Code. يأخذ التصميم في الاعتبار أقصى ضغط ودرجة حرارة تشغيلية، بالإضافة إلى الأحمال الإضافية مثل وزن العمود والأجزاء الداخلية، وأحمال الرياح والزلازل.
الأجزاء الداخلية للعمود (Column Internals)
الأجزاء الداخلية هي قلب عمود التقطير، حيث إنها توفر السطح اللازم للاتصال بين طوري السائل والبخار، مما يسهل عملية انتقال الكتلة. هناك نوعان رئيسيان من الأجزاء الداخلية: الصواني والحشوات.
الصواني (Trays/Plates)
الصواني هي صفائح معدنية أفقية مثبتة داخل العمود على مسافات منتظمة. يجبر تصميمها السائل على التدفق أفقيًا عبر الصينية، بينما يرتفع البخار عموديًا عبر فتحات في الصينية ويتناثر عبر طبقة السائل. كل صينية تعمل كمرحلة تلامس منفصلة. هناك عدة أنواع شائعة من الصواني:
- صواني الفقاعة (Bubble Cap Trays): هي من أقدم التصاميم وأكثرها قوة. تتكون من رافعات (risers) مثبتة على سطح الصينية ومغطاة بأغطية (caps) ذات حواف مسننة أو فتحات. يمر البخار عبر الرافعات ويخرج من تحت الأغطية، مما يضمن تلامسًا جيدًا مع السائل حتى في معدلات تدفق البخار المنخفضة جدًا. ميزتها الرئيسية هي مرونتها التشغيلية العالية (high turndown ratio)، ولكنها تتميز بارتفاع تكلفتها وهبوط الضغط العالي عبرها.
- صواني الصمامات (Valve Trays): تحتوي هذه الصواني على فتحات مغطاة بصمامات متحركة (أغطية قابلة للرفع). عند معدلات تدفق البخار المنخفضة، تظل الصمامات مغلقة جزئيًا، مما يمنع السائل من التسرب (weeping). ومع زيادة تدفق البخار، ترتفع الصمامات، مما يزيد من مساحة التدفق. هذا التصميم يجمع بين الكفاءة الجيدة والمرونة التشغيلية العالية والتكلفة المنخفضة نسبيًا مقارنة بصواني الفقاعة.
- الصواني المثقبة (Sieve Trays): هي أبسط أنواع الصواني وأقلها تكلفة. تتكون من صفيحة معدنية بها ثقوب صغيرة. يعتمد تشغيلها على الحفاظ على سرعة بخار كافية لمنع السائل من التسرب عبر الثقوب. تتميز بكفاءة جيدة وهبوط ضغط منخفض، لكن نطاق تشغيلها (turndown ratio) محدود مقارنة بالأنواع الأخرى.
يرتبط تشغيل الصواني بظواهر هيدروليكية مهمة يجب تجنبها، مثل التسرب (Weeping) وهو تسرب السائل عبر فتحات الصينية عند تدفق بخار منخفض، والفيضان (Flooding) وهو تراكم السائل في العمود بسبب سرعة البخار العالية، والحمل (Entrainment) وهو حمل قطرات السائل مع البخار الصاعد إلى الصينية الأعلى.
صورة مقترحة: مقارنة بين أنواع الصواني الثلاثة: صينية الفقاعة، صينية الصمامات، والصينية المثقبة، مع توضيح مسار تدفق البخار والسائل لكل نوع.
الحشوات (Packing)
الحشوات هي بديل للصواني، خاصة في التطبيقات التي تتطلب هبوط ضغط منخفض جدًا (مثل التقطير الفراغي) أو في الأعمدة ذات الأقطار الصغيرة. تعمل الحشوات على توفير مساحة سطحية كبيرة ومستمرة للاتصال بين السائل والبخار. يتدفق السائل لأسفل فوق سطح الحشوة كفيلم رقيق، بينما يتدفق البخار لأعلى في الفراغات بين قطع الحشوة.
- الحشوات العشوائية (Random Packing): تتكون من قطع صغيرة بأشكال هندسية مختلفة (مثل حلقات راشيج، حلقات بال، سروج بيرل) يتم إلقاؤها بشكل عشوائي في العمود. تُصنع من مواد مختلفة مثل السيراميك والمعادن والبلاستيك. تتميز بتكلفتها المنخفضة وسهولة تركيبها.
- الحشوات المنظمة (Structured Packing): تتكون من صفائح معدنية مموجة أو شبكية مجمعة في وحدات منظمة. يوفر هذا التصميم مساحة سطحية عالية جدًا وفراغات كبيرة، مما يؤدي إلى كفاءة فصل ممتازة وهبوط ضغط منخفض للغاية. ومع ذلك، فهي أكثر تكلفة وأكثر حساسية للانسداد (fouling) بالمواد الصلبة.
بالإضافة إلى الحشوات نفسها، تتطلب الأعمدة المحشوة مكونات إضافية مثل موزعات السائل (Liquid Distributors) لضمان توزيع السائل بشكل متساوٍ على سطح الحشوة، وصفائح الدعم (Support Plates) لحمل وزن الحشوة، ومحددات الحجز (Hold-down Limiters) لمنع تحرك الحشوات العشوائية.
مقارنة بين الصواني والحشوات
يعتمد الاختيار بين الصواني والحشوات على عدة عوامل تشغيلية واقتصادية. يوضح الجدول التالي مقارنة عامة بينهما:
المعيار | الأعمدة ذات الصواني (Tray Columns) | الأعمدة المحشوة (Packed Columns) |
---|---|---|
هبوط الضغط (Pressure Drop) | أعلى | أقل (خاصة مع الحشوات المنظمة) |
الكفاءة (Efficiency) | يمكن أن تكون عالية، لكنها أقل لكل وحدة ارتفاع مقارنة بالحشوات المنظمة. | عالية جدًا، خاصة مع الحشوات المنظمة. |
التكلفة (Cost) | أقل للأعمدة ذات الأقطار الكبيرة. الصواني المثقبة هي الأرخص. | أقل للأعمدة ذات الأقطار الصغيرة. الحشوات المنظمة هي الأغلى. |
السعة (Capacity) | أعلى بشكل عام، خاصة في الأعمدة الكبيرة. | أقل، وحساسة لمشاكل التوزيع. |
المرونة التشغيلية (Turndown Ratio) | جيدة إلى ممتازة (خاصة صواني الصمامات والفقاعة). | محدودة، وتعتمد بشكل كبير على تصميم موزع السائل. |
التعامل مع المواد الصلبة (Fouling Service) | أفضل، حيث يمكن تصميمها بمسافات أكبر بين الصواني لسهولة التنظيف. | أكثر حساسية للانسداد. |
احتجاز السائل (Liquid Holdup) | أعلى | أقل |
معدات التسخين: المرجل (Reboiler)
المرجل (Reboiler) هو نوع من المبادلات الحرارية (Heat Exchanger) يتم تركيبه في قاعدة عمود التقطير. وظيفته هي توفير الطاقة الحرارية اللازمة لتبخير جزء من السائل السفلي. هذا البخار، المعروف باسم (Boil-up)، يرتفع عبر العمود ليوفر التدفق البخاري اللازم لعملية الفصل. هناك عدة أنواع من المراجل:
- مراجل الغلاية (Kettle Reboilers): هي أبسط الأنواع وأكثرها شيوعًا. يتكون من حزمة أنابيب مغمورة في وعاء أفقي كبير (الغلاية). يتدفق السائل من قاعدة العمود إلى الغلاية، ويتم تسخينه بواسطة وسيط ساخن (مثل البخار) يمر عبر الأنابيب. يغادر البخار من أعلى الغلاية ليعود إلى العمود، بينما يتم سحب السائل المتبقي (المنتج السفلي) من الغلاية.
- المراجل الحرارية السيفونية (Thermosyphon Reboilers): تعمل هذه المراجل على مبدأ الدوران الطبيعي الناتج عن اختلاف الكثافة. يتم سحب السائل من قاعدة العمود، ويدخل إلى المرجل (الذي يمكن أن يكون رأسيًا أو أفقيًا) حيث يتم تسخينه. يؤدي التبخر الجزئي إلى تقليل كثافة الخليط ثنائي الطور (سائل + بخار)، مما يدفعه للارتفاع والعودة إلى العمود. هذا الدوران يلغي الحاجة إلى مضخة.
- المراجل ذات الدوران القسري (Forced Circulation Reboilers): في هذا النوع، يتم استخدام مضخة لضخ السائل من قاعدة العمود عبر مبادل حراري. يُستخدم هذا التصميم غالبًا مع السوائل عالية اللزوجة أو التي تميل إلى تكوين رواسب، حيث تضمن سرعة التدفق العالية انتقال حرارة أفضل وتقليل الانسداد.
معدات التكثيف: المكثف (Condenser)
المكثف (Condenser) هو مبادل حراري آخر يتم تركيبه في الجزء العلوي من النظام. وظيفته هي تبريد البخار الذي يغادر قمة العمود وتحويله إلى سائل. يُستخدم وسيط تبريد، مثل مياه التبريد أو الهواء (في المبردات الهوائية) أو مبرد آخر، لإزالة الحرارة من البخار.
- المكثفات الكلية (Total Condensers): تقوم بتكثيف كل البخار العلوي إلى سائل. هذا هو النوع الأكثر شيوعًا.
- المكثفات الجزئية (Partial Condensers): تقوم بتكثيف جزء فقط من البخار العلوي. يتم سحب الجزء السائل (المكثف) لاستخدامه كراجع ومنتج، بينما يتم سحب البخار المتبقي كمنتج علوي غازي. تعمل المكثفات الجزئية أيضًا كمرحلة فصل إضافية.
خزان التقطير (Reflux Drum/Accumulator)
هو وعاء أفقي (أو رأسي أحيانًا) يُستخدم لجمع السائل المكثف (القطارة) من المكثف. يؤدي هذا الخزان وظيفتين رئيسيتين:
- توفير خزان وسيط (surge capacity) لاستيعاب التقلبات في العملية.
- فصل السائل المجمع إلى تيارين: تيار الراجع (Reflux) الذي يتم إعادته إلى قمة العمود، وتيار المنتج العلوي (Distillate) الذي يتم سحبه من النظام.
مضخة الراجع (Reflux Pump)
هي مضخة (عادةً من نوع الطرد المركزي) تُستخدم لسحب تيار الراجع من خزان التقطير وضخه مرة أخرى إلى الصينية العلوية في عمود التقطير. يعد التحكم الدقيق في معدل تدفق الراجع أمرًا بالغ الأهمية للحفاظ على جودة الفصل المطلوبة.
مسار العملية والتشغيل الديناميكي لعمود التقطير
إن فهم كيفية تحرك السوائل وتفاعلها داخل العمود هو مفتاح استيعاب عملية التقطير التجزيئي. تتضمن العملية تدفقًا معاكسًا للبخار الصاعد والسائل الهابط، مع انتقال مستمر للكتلة والحرارة بينهما.
التغذية إلى العمود (Feed Introduction)
يتم إدخال الخليط المراد فصله، أو التغذية (Feed)، إلى العمود عند صينية معينة تُعرف بـ صينية التغذية (Feed Tray). يعد اختيار موقع صينية التغذية أمرًا مهمًا؛ يجب أن يتم إدخال التغذية عند النقطة التي يكون فيها تركيب السائل على الصينية هو الأقرب إلى تركيب التغذية. يؤدي الاختيار الصحيح إلى زيادة كفاءة العمود وتقليل استهلاك الطاقة.
كما أن حالة التغذية الحرارية (Feed Condition) لها تأثير كبير على تصميم وتشغيل العمود. يمكن أن تكون التغذية في حالات مختلفة:
- سائل مبرد (Subcooled Liquid): سائل عند درجة حرارة أقل من درجة غليانه.
- سائل مشبع (Saturated Liquid): سائل عند درجة غليانه.
- خليط سائل وبخار (Partially Vaporized): جزء من التغذية يكون في حالة سائلة والآخر في حالة بخارية.
- بخار مشبع (Saturated Vapor): بخار عند درجة تكثفه.
- بخار محمّص (Superheated Vapor): بخار عند درجة حرارة أعلى من درجة تكثفه.
تؤثر حالة التغذية على الأحمال الداخلية للبخار والسائل في الأجزاء المختلفة من العمود، وبالتالي تؤثر على استهلاك الطاقة وقطر العمود المطلوب.
ديناميكية التدفق داخل العمود
بمجرد دخول التغذية إلى العمود، يتم فصلها إلى تيارين:
- مسار البخار: يرتفع البخار الناتج من المرجل في قاعدة العمود إلى الأعلى. عند كل صينية، يمر البخار عبر السائل، مما يؤدي إلى انتقال المكونات الأكثر تطايرًا من السائل إلى البخار. نتيجة لذلك، يصبح البخار أغنى تدريجيًا بالمكونات الخفيفة كلما اتجه نحو قمة العمود.
- مسار السائل: يتدفق السائل الناتج من الراجع في قمة العمود إلى الأسفل. عند كل صينية، يتدفق السائل عبر الصينية ويتلامس مع البخار الصاعد. يؤدي هذا التلامس إلى انتقال المكونات الأقل تطايرًا من البخار إلى السائل. نتيجة لذلك، يصبح السائل أغنى تدريجيًا بالمكونات الثقيلة كلما اتجه نحو قاعدة العمود.
هذا التدفق المعاكس يخلق تدرجًا في التركيب ودرجة الحرارة على طول العمود. تكون قمة العمود عند أدنى درجة حرارة وأعلى تركيز للمكونات الخفيفة، بينما تكون قاعدة العمود عند أعلى درجة حرارة وأعلى تركيز للمكونات الثقيلة.
قسم الإغناء (Enriching/Rectifying Section)
هو الجزء من العمود الذي يقع فوق صينية التغذية. في هذا القسم، تتمثل الوظيفة الرئيسية في "إغناء" البخار الصاعد بالمكونات الأكثر تطايرًا. يتم تحقيق ذلك عن طريق تلامس البخار مع السائل البارد (الراجع) الذي يتدفق لأسفل. يقوم الراجع بتكثيف المكونات الأثقل من البخار، والتي تنضم بعد ذلك إلى السائل المتدفق لأسفل، بينما يستمر البخار المخصب في الصعود.
قسم التجزيء (Stripping/Exhausting Section)
هو الجزء من العمود الذي يقع أسفل صينية التغذية. في هذا القسم، تتمثل الوظيفة الرئيسية في "تجريد" أو "نزع" المكونات الأكثر تطايرًا من السائل المتدفق لأسفل. يتم تحقيق ذلك عن طريق تلامس السائل مع البخار الساخن (الناتج من المرجل) الذي يرتفع من القاعدة. يقوم البخار بتبخير المكونات الأخف من السائل، والتي تنضم بعد ذلك إلى البخار الصاعد، بينما يستمر السائل المنزوع منه المكونات الخفيفة في الهبوط.
دور الراجع (Reflux) في عملية الفصل
الراجع (Reflux) هو الجزء من السائل المكثف العلوي الذي يتم إعادته إلى قمة العمود. يلعب الراجع دورًا حيويًا في عملية التقطير التجزيئي؛ فبدونه، سيتحول العمود إلى مجرد جهاز تقطير بسيط بمرحلة واحدة. يوفر الراجع التدفق السائل الهابط في قسم الإغناء، وهو ضروري لإنشاء التلامس المتعدد المراحل بين السائل والبخار الذي يسمح بالفصل الفعال.
يتم قياس كمية الراجع بما يسمى نسبة الراجع (Reflux Ratio, R)، والتي تُعرف بأنها نسبة معدل تدفق السائل الراجع (L) إلى معدل تدفق المنتج العلوي المسحوب (D).
$$ R = \frac{L}{D} $$تعتبر نسبة الراجع متغيرًا تشغيليًا رئيسيًا يؤثر على كل من تكاليف رأس المال وتكاليف التشغيل:
- زيادة نسبة الراجع: تؤدي إلى تحسين درجة الفصل (منتجات أكثر نقاءً). ومع ذلك، تتطلب عددًا أقل من مراحل الفصل (عمود أقصر)، ولكنها تزيد من تدفق السوائل داخل العمود، مما يتطلب قطر عمود أكبر. الأهم من ذلك، أنها تزيد بشكل كبير من كمية الحرارة المطلوبة في المرجل وكمية التبريد المطلوبة في المكثف، مما يرفع تكاليف التشغيل (الطاقة) بشكل كبير.
- تقليل نسبة الراجع: يؤدي إلى تقليل تكاليف الطاقة، ولكنه يتطلب عددًا أكبر من مراحل الفصل لتحقيق نفس درجة النقاء، مما يزيد من ارتفاع العمود وتكاليف رأس المال.
هناك حدان نظريان لنسبة الراجع:
- نسبة الراجع الدنيا (Minimum Reflux Ratio, $R_{min}$): هي أقل نسبة راجع يمكن عندها تحقيق الفصل المطلوب، ولكنها تتطلب عددًا لا نهائيًا من المراحل. من المستحيل تشغيل العمود عند هذه النسبة.
- الراجع الكلي (Total Reflux): يحدث عندما يتم إرجاع كل السائل المكثف إلى العمود ($D=0, R=\infty$). في هذه الحالة، لا يتم سحب أي منتج، ولكن يتم تحقيق الفصل بأقل عدد ممكن من المراحل. يُستخدم هذا الوضع عادةً أثناء بدء تشغيل العمود لتحقيق الاستقرار.
في الممارسة العملية، يتم اختيار نسبة راجع تشغيلية (Operating Reflux Ratio) تكون عادةً من 1.2 إلى 1.5 مرة من نسبة الراجع الدنيا. يمثل هذا الاختيار حلاً اقتصاديًا وسطًا بين تكاليف رأس المال (ارتفاع العمود) وتكاليف التشغيل (الطاقة).
يمثل التحكم في نسبة الراجع الأداة الرئيسية للمشغل لتحقيق التوازن بين نقاء المنتج واستهلاك الطاقة، مما يجعله أحد أهم المتغيرات التي يتم التحكم فيها في أي عملية تقطير.
سحب المنتجات (Product Withdrawal)
يتم سحب المنتجات النهائية من مواقع مختلفة في نظام التقطير:
- المنتج العلوي (Overhead Product/Distillate): هو المنتج الذي يحتوي على أعلى تركيز من المكونات الأكثر تطايرًا (الأخف). يتم سحبه كسائل من خزان التقطير أو كبخار مباشرة من خط البخار العلوي (في حالة المكثفات الجزئية).
- المنتج السفلي (Bottoms Product): هو المنتج الذي يحتوي على أعلى تركيز من المكونات الأقل تطايرًا (الأثقل). يتم سحبه كسائل من قاع العمود أو من حوض المرجل.
- السحوبات الجانبية (Side Streams/Side Draws): في بعض التطبيقات، خاصة في تكرير النفط الخام، قد يكون من المرغوب فيه الحصول على منتجات ذات نقاط غليان متوسطة. يتم تحقيق ذلك عن طريق سحب تيار سائل أو بخار من صينية وسيطة في العمود. غالبًا ما يتم إرسال هذه السحوبات الجانبية إلى أعمدة تجريد صغيرة (Side Strippers) لإزالة المكونات الخفيفة العالقة وتحسين جودة المنتج.
التحكم في العمليات والمتغيرات التشغيلية
لضمان تشغيل عمود التقطير بشكل مستقر وفعال وإنتاج منتجات تلبي المواصفات المطلوبة، يجب مراقبة والتحكم في العديد من المتغيرات التشغيلية. تشكل أنظمة التحكم جزءًا لا يتجزأ من أي وحدة تقطير حديثة.
المتغيرات الأساسية للتحكم
تعتمد استراتيجية التحكم على الحفاظ على توازن الكتلة والطاقة في العمود. المتغيرات الرئيسية التي يتم التلاعب بها لتحقيق هذا التوازن هي:
- ضغط العمود (Column Pressure): يؤثر الضغط بشكل مباشر على درجات غليان المكونات وعلى التطاير النسبي. عادةً ما يتم التحكم في الضغط عند نقطة واحدة في العمود (غالبًا في الجزء العلوي). يمكن التحكم فيه عن طريق تعديل معدل التكثيف في المكثف (على سبيل المثال، عن طريق تغيير تدفق مياه التبريد أو سرعة مراوح المبرد الهوائي) أو عن طريق تنفيس الغازات غير القابلة للتكثف من خزان التقطير.
- درجة الحرارة (Temperature Profile): نظرًا لأن تركيب السائل عند ضغط ثابت يرتبط ارتباطًا وثيقًا بدرجة حرارته، فإن المظهر الجانبي لدرجة الحرارة على طول العمود يعد مؤشرًا ممتازًا لفعالية الفصل. غالبًا ما يتم التحكم في نقاء المنتج بشكل غير مباشر عن طريق التحكم في درجة الحرارة عند صينية حساسة (tray of sensitivity) - وهي صينية يتغير فيها تركيب السائل بشكل كبير مع تغير ظروف التشغيل.
- معدلات التدفق (Flow Rates): يعد التحكم في معدلات تدفق التغذية، والراجع، والمنتجات، ووسيط التسخين أمرًا بالغ الأهمية. على سبيل المثال، يتم التحكم في مستوى السائل في قاع العمود عن طريق التلاعب بمعدل سحب المنتج السفلي، ويتم التحكم في مستوى السائل في خزان التقطير عن طريق التلاعب بمعدل سحب المنتج العلوي.
استراتيجيات التحكم في عمود التقطير
هناك العديد من استراتيجيات التحكم الممكنة، ويعتمد اختيارها على أهداف العملية (مثل زيادة الإنتاج، تقليل استهلاك الطاقة، أو الحفاظ على نقاء صارم للمنتج). أحد التكوينات الشائعة للتحكم في عمود يفصل مكونين (ثنائي) يتضمن الحلقات التالية:
- التحكم في مستوى السائل في القاعدة (Bottoms Level Control): يتم قياس مستوى السائل في قاع العمود بواسطة جهاز إرسال مستوى (Level Transmitter)، والذي يرسل إشارة إلى صمام تحكم (Control Valve) على خط المنتج السفلي لضبط معدل السحب والحفاظ على المستوى ثابتًا.
- التحكم في مستوى السائل في خزان التقطير (Reflux Drum Level Control): وبالمثل، يتم التحكم في مستوى السائل في خزان التقطير عن طريق التلاعب بمعدل سحب المنتج العلوي (القطارة).
- التحكم في الضغط (Pressure Control): يتم قياس الضغط في الجزء العلوي من العمود ويتم التحكم فيه عن طريق ضبط واجب التبريد للمكثف.
- التحكم في التركيب (Composition Control): هذا هو الجزء الأكثر أهمية. يمكن تحقيق التحكم في نقاء المنتج العلوي (على سبيل المثال) عن طريق:
- التحكم في درجة الحرارة: يتم قياس درجة الحرارة عند صينية حساسة في قسم الإغناء. يقوم جهاز التحكم في درجة الحرارة بضبط معدل تدفق الراجع للحفاظ على درجة الحرارة عند نقطة الضبط المطلوبة، وبالتالي الحفاظ على نقاء المنتج العلوي بشكل غير مباشر.
- التحكم المباشر في التركيب: باستخدام محلل على الخط (Online Analyzer) مثل كروماتوغراف الغاز، يمكن قياس التركيب الفعلي للمنتج مباشرة. ثم يقوم جهاز التحكم بضبط معدل الراجع لتحقيق التركيب المطلوب. هذا النهج أكثر دقة ولكنه أبطأ وأكثر تكلفة.
- التحكم في الطاقة المدخلة (Energy Input Control): يتم التحكم في نقاء المنتج السفلي عادةً عن طريق التلاعب بكمية الحرارة المدخلة إلى المرجل (على سبيل المثال، عن طريق ضبط تدفق البخار). غالبًا ما يتم ربط هذا التحكم بدرجة حرارة صينية حساسة في قسم التجزيء.
في المصانع الحديثة، يتم استخدام أنظمة التحكم المتقدمة في العمليات (Advanced Process Control - APC)، مثل التحكم التنبئي بالنموذج (Model Predictive Control - MPC)، لتحسين تشغيل أعمدة التقطير. تستخدم هذه الأنظمة نماذج رياضية ديناميكية للعملية للتنبؤ بسلوكها المستقبلي وضبط متغيرات متعددة في وقت واحد لتحقيق أهداف اقتصادية محددة، مثل زيادة الأرباح إلى أقصى حد مع الالتزام بجميع قيود الجودة والسلامة.
تطبيقات عملية التقطير التجزيئي في الصناعة
تعتبر عملية التقطير التجزيئي عملية أساسية في مجموعة واسعة من الصناعات، حيث لا يمكن المبالغة في أهميتها.
صناعة تكرير النفط الخام (Crude Oil Refining)
هذا هو التطبيق الأكثر شهرة والأكبر حجمًا للتقطير التجزيئي. النفط الخام هو خليط معقد للغاية من آلاف المركبات الهيدروكربونية. الخطوة الأولى في أي مصفاة نفط هي فصل هذا الخليط إلى أجزاء (قطفات) ذات نطاقات غليان مختلفة.
- وحدة التقطير الجوي (Atmospheric Distillation Unit - ADU): يتم تسخين النفط الخام في فرن إلى حوالي 350-400 درجة مئوية ويتم إدخاله إلى عمود تقطير ضخم يعمل عند ضغط جوي تقريبًا. يتم فصله إلى منتجات مختلفة يتم سحبها من ارتفاعات مختلفة على طول العمود:
- القمة: غازات البترول المسال (LPG)، النافثا الخفيفة (مكون البنزين).
- الجزء العلوي: النافثا الثقيلة (مادة تغذية لوحدات الإصلاح الحفزي).
- الجزء الأوسط: الكيروسين (وقود الطائرات) والديزل الخفيف (زيت الغاز).
- الجزء السفلي: زيت الغاز الثقيل (AGO).
- القاعدة: المتبقي الجوي (Atmospheric Residue)، وهو الجزء الأثقل الذي لا يتبخر في ظل الظروف الجوية.
- وحدة التقطير الفراغي (Vacuum Distillation Unit - VDU): يتم إرسال المتبقي الجوي الساخن إلى عمود تقطير آخر يعمل تحت تفريغ عميق (ضغط منخفض جدًا). يؤدي خفض الضغط إلى خفض درجات غليان الهيدروكربونات الثقيلة، مما يسمح بتبخيرها عند درجات حرارة أقل من 400 درجة مئوية. هذا يمنع التكسير الحراري (Thermal Cracking)، الذي من شأنه أن يكسر الجزيئات الكبيرة إلى منتجات أقل قيمة مثل فحم الكوك والغاز. منتجات وحدة التقطير الفراغي هي زيت الغاز الفراغي (VGO)، الذي يعد مادة تغذية مهمة لوحدات التكسير الحفزي، والمتبقي الفراغي (Vacuum Residue)، الذي يمكن استخدامه لإنتاج الأسفلت أو زيت الوقود الثقيل.
صناعة الغاز الطبيعي (Natural Gas Processing)
بعد إزالة الشوائب، غالبًا ما يحتوي الغاز الطبيعي على هيدروكربونات أثقل تُعرف باسم سوائل الغاز الطبيعي (Natural Gas Liquids - NGLs). يتم فصل هذه السوائل القيمة عن غاز الميثان الرئيسي ثم يتم تجزئتها باستخدام سلسلة من أعمدة التقطير (تسمى قطار التجزئة أو Fractionation Train).
- مزيل الإيثان (De-ethanizer): يفصل الإيثان (C2) كمنتج علوي عن المكونات الأثقل (البروبان، البيوتان، إلخ).
- مزيل البروبان (De-propanizer): يأخذ المنتج السفلي من مزيل الإيثان ويفصل البروبان (C3) كمنتج علوي.
- مزيل البيوتان (De-butanizer): يأخذ المنتج السفلي من مزيل البروبان ويفصل البيوتان (C4) كمنتج علوي عن المكونات المتبقية (البنزين الطبيعي).
الصناعات الكيميائية والبتروكيماوية
يستخدم التقطير التجزيئي على نطاق واسع في الصناعات الكيميائية لتنقية المواد الخام والمنتجات النهائية وفصل المنتجات الثانوية.
- فصل الهواء (Air Separation): يتم فصل الهواء السائل إلى مكوناته الرئيسية - النيتروجين والأكسجين والأرجون - عن طريق التقطير التجزيئي عند درجات حرارة منخفضة جدًا (التقطير المبرد أو Cryogenic Distillation).
- إنتاج الأوليفينات (Olefins Production): في مصانع الإيثيلين، يتم تكسير الهيدروكربونات بالبخار لإنتاج خليط معقد من الغازات. يتم استخدام سلسلة من أعمدة التقطير المبردة لفصل هذا الخليط إلى منتجات عالية النقاء مثل الإيثيلين والبروبيلين. على سبيل المثال، يتطلب فصل الإيثيلين عن الإيثان (اللذين لهما درجات غليان متقاربة جدًا) عمودًا طويلًا جدًا (C2 Splitter) يعمل بنسبة راجع عالية.
- تنقية المذيبات والكحولات: يتم استخدام التقطير لتنقية المذيبات المستعملة لإعادة استخدامها أو لفصل المنتجات مثل الإيثانول عن الماء بعد عمليات التخمير.
التقطير الأيزوتروبي والتقطير الاستخلاصي
عندما تكون درجات غليان المكونات متقاربة جدًا (أي أن التطاير النسبي $\alpha$ قريب من 1)، أو عندما يشكل الخليط أيزوتروب (Azeotrope) - وهو خليط يغلي عند درجة حرارة ثابتة ويكون لتركيب بخاره نفس تركيب سائله - يصبح الفصل بالتقطير التقليدي صعبًا أو مستحيلًا. في هذه الحالات، يتم استخدام تقنيات تقطير متخصصة:
- التقطير الأيزوتروبي (Azeotropic Distillation): يتم إضافة مكون ثالث (يسمى Entrainer) إلى الخليط. يتم اختيار هذا المكون بحيث يشكل أيزوتروبًا جديدًا مع أحد المكونات الأصلية (أو كليهما)، ويكون لهذا الأيزوتروب الجديد درجة غليان منخفضة ويمكن فصله بسهولة كمنتج علوي. مثال كلاسيكي هو استخدام البنزين أو السيكلوهكسان كـ entrainer لإزالة الماء من الإيثانول.
- التقطير الاستخلاصي (Extractive Distillation): يتم إضافة مذيب عالي درجة الغليان وقليل التطاير إلى الخليط. هذا المذيب لا يشكل أيزوتروبًا، ولكنه يغير قوى التجاذب بين الجزيئات في الخليط الأصلي، مما يؤدي إلى تغيير (زيادة) التطاير النسبي بين المكونين المراد فصلهما، وبالتالي تسهيل عملية الفصل. يخرج المذيب من قاع العمود الأول مع المكون الأقل تطايرًا، ثم يتم فصلهما في عمود ثانٍ.
الكفاءة والحسابات الهندسية الأساسية
يعد تقييم أداء عمود التقطير وتصميمه من المهام الأساسية للمهندس الكيميائي. يتضمن ذلك حساب عدد مراحل الفصل المطلوبة وتحديد كفاءة معدات الفصل الفعلية.
مفهوم المرحلة النظرية (Theoretical Stage)
المرحلة النظرية (Theoretical Stage) أو المرحلة المثالية (Ideal Stage) هي مرحلة فصل افتراضية حيث يُفترض أن البخار والسائل اللذين يغادران المرحلة في حالة توازن تام مع بعضهما البعض. هذا يعني أن تركيبهما ودرجة حرارتهما يتبعان علاقات توازن السائل والبخار (VLE) بدقة. في الواقع، لا تصل الصواني الفعلية أبدًا إلى حالة التوازن التام، لكن مفهوم المرحلة النظرية يوفر أساسًا مناسبًا لتصميم ومقارنة أعمدة التقطير.
كفاءة الصينية (Tray Efficiency)
لربط عدد المراحل النظرية المطلوبة (التي يتم حسابها من بيانات VLE) بعدد الصواني الفعلية المطلوبة في عمود حقيقي، يتم استخدام مفهوم الكفاءة (Efficiency).
- الكفاءة الكلية للعمود (Overall Column Efficiency, $E_o$): هي أبسط مقياس، وتُعرَّف بأنها نسبة عدد المراحل النظرية المطلوبة إلى عدد الصواني الفعلية المستخدمة. $$ E_o = \frac{\text{Number of Theoretical Stages}}{\text{Number of Actual Trays}} $$ تتراوح قيمتها عادةً بين 30% و 90% وتعتمد على خصائص السوائل (اللزوجة، التوتر السطحي) وتصميم الصينية والظروف التشغيلية.
- كفاءة مورفري (Murphree Efficiency, $E_{MV}$): هي مقياس أكثر تفصيلاً لكفاءة صينية واحدة. تقارن التغير الفعلي في تركيز البخار عبر صينية معينة بالتغير الذي كان سيحدث لو وصل البخار إلى حالة توازن مع السائل الذي يغادر تلك الصينية.
ارتفاع الوحدة المكافئة للمرحلة النظرية (HETP) للحشوات
بالنسبة للأعمدة المحشوة، التي توفر تلامسًا مستمرًا بدلاً من مراحل منفصلة، لا يمكن استخدام مفهوم كفاءة الصينية مباشرة. بدلاً من ذلك، يتم استخدام معلمة تسمى ارتفاع الوحدة المكافئة للمرحلة النظرية (Height Equivalent to a Theoretical Plate - HETP).
يمثل HETP ارتفاع طبقة الحشوة الذي يوفر نفس درجة الفصل التي توفرها مرحلة نظرية واحدة. لحساب الارتفاع الكلي للحشوة المطلوبة، يتم ضرب عدد المراحل النظرية المحسوبة في قيمة HETP.
$$ \text{Total Packing Height} = (\text{Number of Theoretical Stages}) \times \text{HETP} $$تعتمد قيمة HETP على نوع وحجم الحشوة، وخصائص السوائل، ومعدلات التدفق. القيم الأصغر لـ HETP تشير إلى حشوة أكثر كفاءة.
طريقة ماكيب-ثيل (McCabe-Thiele Method)
هي طريقة رسومية كلاسيكية تستخدم لتحديد العدد النظري للمراحل المطلوبة لفصل خليط ثنائي (مكونين). على الرغم من أنها تعتمد على بعض الافتراضات المبسطة (مثل التدفقات المولية الثابتة في كل قسم من أقسام العمود)، إلا أنها توفر فهمًا مرئيًا ممتازًا لمبادئ التقطير.
تتضمن الطريقة رسم مخطط x-y (الجزء المولي للمكون الأكثر تطايرًا في البخار مقابل الجزء المولي له في السائل) ورسم المكونات التالية عليه:
- منحنى التوازن (Equilibrium Curve): يمثل علاقة VLE بين $y$ و $x$ عند ضغط ثابت.
- خط التشغيل العلوي (Upper Operating Line): يمثل توازن الكتلة في قسم الإغناء ويرتبط بنسبة الراجع $R$.
- خط التشغيل السفلي (Lower Operating Line): يمثل توازن الكتلة في قسم التجزيء.
- خط التغذية (q-line): يمثل الحالة الحرارية للتغذية ويحدد تقاطع خطي التشغيل.
بعد رسم هذه الخطوط، يتم "رسم درجات" (stepping off stages) بين منحنى التوازن وخطوط التشغيل، بدءًا من تركيز المنتج العلوي المطلوب وانتهاءً بتركيز المنتج السفلي المطلوب. عدد "الدرجات" المرسومة يمثل العدد النظري للمراحل المطلوبة. تعد هذه الطريقة أداة تعليمية قوية وأساسًا لفهم برامج المحاكاة الحاسوبية الأكثر تعقيدًا المستخدمة في التصميم الهندسي الحديث.
في الختام، تظل عملية التقطير التجزيئي، على الرغم من قدمها، تقنية حيوية ومتطورة باستمرار. إن فهم مبادئها الأساسية، ومكوناتها المادية، وديناميكياتها التشغيلية، واستراتيجيات التحكم فيها، هو أمر ضروري لأي مهندس يعمل في الصناعات التحويلية. من خلال التحسين المستمر في تصميم الأجزاء الداخلية، وتكامل الطاقة، وأنظمة التحكم المتقدمة، تستمر هذه العملية في لعب دور محوري في تلبية الطلب العالمي على الطاقة والمنتجات الكيميائية.
المصادر
- McCabe, W. L., Smith, J. C., & Harriott, P. (2005). Unit Operations of Chemical Engineering (7th ed.). McGraw-Hill.
- Seider, W. D., Seader, J. D., Lewin, D. R., & Widagdo, S. (2017). Product and Process Design Principles: Synthesis, Analysis, and Evaluation (4th ed.). Wiley.
- Perry, R. H., & Green, D. W. (2008). Perry's Chemical Engineers' Handbook (8th ed.). McGraw-Hill.
- Kister, H. Z. (1992). Distillation Design. McGraw-Hill.
- Luyben, W. L. (2013). Distillation Design and Control Using Aspen Simulation. Wiley.
- American Petroleum Institute (API). (Various Standards). API standards related to pressure vessels, piping, and equipment design in refineries.